كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(فَإِنْ قُلْتَ): وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْبَالِغَةُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُبُوتًا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمَسُّكٍ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، بِوُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ، حَتَّى وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ: «أَطِيعُوا السُّلْطَانَ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا رَأْسُهُ كَالزَّبِيبَةِ» وَوَرَدَ وُجُوبُ طَاعَتِهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمُ الْكُفْرُ الْبَوَاحُ، وَلَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَإِنْ بَلَغُوا فِي الظُّلْمِ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَفَعَلُوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِهِ، مِمَّا لَمْ يَخْرُجُوا بِهِ إِلَى الْكُفْرِ الْبَوَاحِ، فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ وَاجِبَةٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَا أَمَرُوا بِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ تَوَلِّي الْأَعْمَالِ لَهُمْ، وَالدُّخُولِ فِي الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ الدُّخُولُ فِيهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ الْجِهَادُ، وَأَخْذُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنَ الرَّعَايَا، وَإِقَامَةُ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ مِنْهُمْ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَطَاعَتُهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ صَارَ تَحْتَ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَابُدَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَطَةِ لَهُمْ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَابُدَّ مِنْهُ، وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ لِتَوَاتُرِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ بِهِ، بَلْ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 4: 59 بَلْ وَرَدَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الَّذِي لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَإِنْ مَنَعُوا مَا هُوَ عَلَيْهِمْ لِلرَّعَايَا، كَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ «أَعْطُوهُمُ الَّذِي لَهُمْ وَاسْأَلُوا اللهَ الَّذِي لَكُمْ» وَرَدَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ السُّلْطَانِ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالَ: «وَإِنْ أَخَذَ مَالَكَ وَضَرَبَ ظَهْرَكَ» فَإِنِ اعْتَبَرْنَا مُطْلَقَ الْمَيْلِ وَالسُّكُونِ، فَمُجَرَّدُ هَذِهِ الطَّاعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَعَ مَا تَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ هِيَ مَيْلٌ وَسُكُونٌ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْمَيْلَ وَالسُّكُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ مَالَ إِلَيْهِمْ فِي الظَّاهِرِ لِأَمْرٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ شَرْعًا كَالطَّاعَةِ أَوِ التَّقِيَّةِ، وَمَخَافَةِ الضَّرَرِ مِنْهُمْ أَوْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَيْلٌ إِلَيْهِمْ فِي الْبَاطِنِ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًى بِأَفْعَالِهِمْ. اهـ.
(قُلْتُ): أَمَّا الطَّاعَةُ عَلَى عُمُومِهَا بِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَهِيَ عَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَيْهَا، مُخَصَّصَةٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْهُ بِأَدِلَّتِهَا الَّتِي قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا وَلَا رَيْبَ، فَكُلُّ مَنْ أَمَرُوهُ ابْتِدَاءً أَنْ يَدْخُلَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمْرُهَا إِلَيْهِمْ، مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ كَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَنَحْوِهَا، إِذَا وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالْقِيَامِ بِمَا وُكِلَ إِلَيْهِ فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ جَائِزٌ لَهُ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ، فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ وُقُوعِ الْأَمْرِ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، أَوْ مَعَ ضَعْفِ الْمَأْمُورِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ كَمَا وَرَدَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِمَارَةِ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا مُخَالَطَتُهُمْ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِمْ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ، مَعَ كَرَاهَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَعَدَمِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَيْهِمْ وَمَحَبَّتِهَا لَهُمْ، وَكَرَاهَةِ الْمُوَاصَلَةِ لَهُمْ لَوْلَا جَلْبُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَعَلَى فَرْضِ صِدْقِ مُسَمَّى الرُّكُونِ عَلَى هَذَا فَهُوَ مُخَصَّصٌ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَلَا يَخْفَى عَلَى اللهِ خَافِيَةٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَمَنِ ابْتُلِيَ بِمُخَالَطَةِ مَنْ فِيهِ ظُلْمٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَزِنَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ وَمَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، فَإِنْ زَاغَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَى نَفْسِهَا بَرَاقِشُ تَجْنِي، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْفِرَارِ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ مِنْ جِهَتِهِمْ بِأَمْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ فَهُوَ الْأَوْلَى لَهُ وَالْأَلْيَقُ بِهِ. يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ فِيكَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَقَوِّنَا عَلَى ذَلِكَ، وَيَسِّرْهُ لَنَا، وَأَعِنَّا عَلَيْهِ .اهـ.
تَحْقِيقُ مَسْأَلَةِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ: إِنَّ هَذَا الْبَحْثَ الَّذِي فَتَحَ بَابَهُ وَدَخَلَهُ هَذَانِ الْمُجَدِّدَانِ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا (فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفَتْحِ الْبَيَانِ) كَانَ اسْتِدْرَاكًا ضَرُورِيًّا لِمَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ جُمْهُورُ مَنْ قَبْلَهُمَا فَاقْتَصَرُوا وَقَصَرُوا، لَوْلَاهُ لَمَا كَانَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، عَلَى أَنَّهُمَا عَلَى سَبْقِهِمَا لَمْ يَسْلَمَا مِنْ تَقْصِيرٍ، وَلَمْ يَأْتِيَا بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْبَحْثُ مِنْ تَحْرِيرٍ، وَأَوْرَدَا الْأَحَادِيثَ بِالْمَعْنَى بِدُونِ تَخْرِيجٍ وَلَا تَدْقِيقٍ.
أَهَمُّ مَا فِي الْبَحْثِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى التَّحْرِيرِ، مَسْأَلَةُ طَاعَةِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ وَإِنْ تَفَاقَمَ ظُلْمُهُمْ فَسَلَبُوا الْأَمْوَالَ، وَضَرَبُوا ظُهُورَ الرِّجَالِ، مَا دَامُوا لَا يُظْهِرُونَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ (هُوَ بِالْفَتْحِ: الظَّاهِرُ الْمَكْشُوفُ) وَقَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ وُجُوبَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَذْهَبُ الزَّيْدِيَّةِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نَظَرٌ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدٍ، وَإِجْمَالُهُ لَا يَنْجَلِي إِلَّا بِبَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْرِيرُهُ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى) وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ الْحَقِّ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ وُجُوبِ طَاعَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ، وَحَظْرِ مَا دُونَ الرُّكُونِ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَمَا فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ مِنْ آيَاتِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ فِي تَقْبِيحِ الظُّلْمِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى سُلْطَةِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي طَاعَتِهِمْ يُقَابِلُهُ مَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ وُجُوبِ الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي الظَّالِمِينَ عَامَّةً، وَعَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالْأُمَرَاءِ خَاصَّةً، وَوُجُوبِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ أَوَّلًا فَإِنْ لَمْ يُسْتَطَعْ فَبِاللِّسَانِ، وَكَوْنِ إِنْكَارِهِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ لِمَا قَبْلَهُ أَضْعَفَ الْإِيمَانِ، وَمِنْهُ عَدَمُ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ يَسِيرًا، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الرُّكُونِ، فَإِنْكَارُهُمْ لَهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ مَنْ أَخْطَأَ فِي تَفْسِيرِ الرُّكُونِ بِهِ.
وَحَسْبُنَا هُنَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [5: 105] الْآيَةَ، فَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ قَيْسٍ (أَبِي حَازِمٍ) قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ الْآيَةِ- أَلَا وَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ لَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ اللهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ، أَلَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ...» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحُمَيْدِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَلَعَنَهُمْ {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [5: 78]» قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ أَطْرًا» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: قَالَ: «كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَّكُمُ اللهُ كَمَا لَعَنَهُمْ». اهـ.
أَطَرَهُ عَلَى الْحَقِّ وَغَيْرِهِ: عَطَفَهُ وَثَنَاهُ، وَقَصَرَهُ عَلَيْهِ حَبَسَهُ وَأَمْسَكَهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّاهُ (وَبَابُهُمَا ضَرَبَ).
وَالْأَصْلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّاعَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الشَّرْعِ هِيَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ (الْخُلَفَاءِ) وَنُوَّابِهِمْ مِنَ السَّلَاطِينِ وَأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَالْوُلَاةِ، وَكُلُّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالْمَعْرُوفِ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، دُونَ الْمَحْظُورِ. وَأَمَّا طَاعَةُ الْمُتَغَلِّبِينَ فَهِيَ لِلضَّرُورَةِ، وَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَيَجِبُ إِزَالَتُهَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ تُرَجِّحُ مَفْسَدَتَهَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَخُرُوجُ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ السِّبْطِ عليه السلام عَلَى يَزِيدَ الظَّالِمِ الْفَاسِقِ كَانَ حَقًّا مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، وَلَكِنَّهُ مَا أَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ الْكَافِيَةَ، بَلْ خَذَلَهُ مَنْ عَاهَدُوهُ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَدِ امْتَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ، وَفَرَّ مِنْهَا الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ مَالِكٍ مَا كَانَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ تَرَكَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ مَعَ وُلَاتِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ (مَرَاتِبُ الْإِجْمَاعِ): وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْإِمَامَ الْوَاجِبُ إِمَامَتُهُ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً فَرْضٌ، وَالْقِتَالُ دُونَهُ فَرْضٌ، وَخِدْمَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَاجِبَةٌ، وَأَحْكَامُهُ وَأَحْكَامُ مَنْ وَلَّى نَافِذَةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ مُدُنِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ إِمَامٍ قُرَشِيٍّ غَيْرِ عَدْلٍ أَوْ مُتَغَلِّبٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ إِلَخْ. وَأَوْرَدَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْبَابِ مِنْ نَيْلِ الْأَوْطَارِ حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِهِ مَا نَصُّهُ:
قَوْلُهُ: «عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ» أَيْ: نَصُّ آيَةٍ، أَوْ خَبَرٌ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ مَا دَامَ فِعْلُهُمْ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَةُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تُنَازِعُوا وُلَاةَ الْأُمُورِ فِي وِلَايَتِهِمْ، وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوا عَلَيْهِمْ وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ. انْتَهَى.
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَالَ غَيْرُهُ: إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي الْوِلَايَةِ، فَلَا يُنَازِعُهُ بِمَا يَقْدَحُ فِي الْوِلَايَةِ إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ الْكُفْرَ، وَحَمَلَ رِوَايَةَ الْمَعْصِيَةِ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِيمَا عَدَا الْوِلَايَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدَحْ فِي الْوِلَايَةِ نَازَعَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ، وَيَتَوَصَّلَ إِلَى تَثْبِيتِ الْحَقِّ لَهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَادِرًا، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى خَلْعِهِ بِغَيْرِ فِتْنَةٍ وَلَا ظُلْمٍ وَجَبَ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ الصَّبْرُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: لَا يَجُوزُ عَقْدُ الْوِلَايَةِ لِفَاسِقٍ ابْتِدَاءً، فَإِنْ أَحْدَثَ جَوْرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَدْلًا فَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، إِلَّا أَنْ يَكْفُرَ فَيَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَوْ جَارَ.
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ الْمُتَغَلِّبِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ، وَأَنَّ طَاعَتَهُ خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ وَتَسْكِينِ الدَّهْمَاءِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا وَقَعَ مِنَ السُّلْطَانِ الْكُفْرُ الصَّرِيحُ، فَلَا يَجُوزُ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، بَلْ تَجِبُ مُجَاهَدَتُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ. انْتَهَى.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَمُنَابَذَتِهِمُ السَّيْفَ وَمُكَافَحَتِهِمْ بِالْقِتَالِ، بِعُمُومَاتٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرْنَاهَا أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، وَهِيَ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ أَنَسَةٌ بِعِلْمِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحُطَّ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْعِتْرَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالْكَرَّامِيَّةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى أَحَادِيثِ الْبَابِ، حَتَّى حَكَمُوا بِأَنَّ الْحُسَيْنَ السِّبْطَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- بَاغٍ عَلَى الْخَمِيرِ السِّكِّيرِ الْهَاتِكِ لِحُرُمِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَعَنَهُمُ اللهُ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ مَقَالَاتٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَيَتَصَدَّعُ مِنْ سَمَاعِهَا كُلُّ جُلْمُودٍ. انْتَهَى مَا فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ.
هَذَا وَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى أَوَّلِ الْبَابِ هُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ لُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَإِمَامِهِمُ الَّذِي بَايَعُوهُ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَيْهِ، أَخَصُّ مِمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، وَقَدْ قَالُوا فِي مَعْنَى مَوْتِهِ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً: إِنَّهُ يَمُوتُ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِإِمَامٍ يَلْتَزِمُهَا مَعَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَيَكُونُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْفَوْضَى لَا أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا. اهـ.
وَكُلُّ هَذَا فِي خُرُوجِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ أَوِ الْفِئَاتِ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ بِشَقِّ عَصَا الطَّاعَةِ، وَتَفْرِيقِ شَمْلِ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ ظَالِمًا، فَإِنْ كَفَّ الْإِمَامُ عَنِ الظُّلْمِ وَلَوْ بِالْعَزْلِ فَهُوَ حَقُّ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ هُمْ مَحَلُّ ثِقَةِ الْأُمَّةِ، الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الرَّأْيَ الْعَامَّ فِيهَا، الَّذِينَ عَنَاهُمْ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: «فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زُغْتُ فَقَوِّمُونِي».
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
هَذَا أَمْرٌ بِأَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَبِأَعْظَمِ الْأَخْلَاقِ، اللَّذَيْنِ يُسْتَعَانُ بِهِمَا عَلَى مَا قَبْلَهُمَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالرُّكُونِ إِلَى أُولِي الظُّلْمِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَا عَلَيْهِمَا.
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} خَصَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ الْمُجْمَلَةِ، لِأَنَّهَا رَأْسُ الْعِبَادَاتِ الْمُغَذِّيَةِ لِلْإِيمَانِ وَالْمُعِينَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، أَيْ: أَدِّهَا عَلَى الْوَجْهِ الْقَوِيمِ وَأَدِمْهَا فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، طَرَفُ الشَّيْءِ وَالزَّمَنِ النَّاحِيَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ وَنِهَايَتُهُ، فَطَرَفَا النَّهَارِ هُنَا الْبُكْرَةُ وَالْأَصِيلُ أَوِ الْغُدُوُّ وَالْعَشِيُّ، وَقَدْ أَمَرَنَا تَعَالَى فِي التَّنْزِيلِ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ فِيهِمَا: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} أَيْ: وَفِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، جَمْعُ زُلْفَةٍ، وَهِيَ بِالضَّمِّ كَقُرَبٍ جَمْعُ قُرْبَةٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَتُطْلَقُ كَمَا فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ عَلَى الطَّائِفَةِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ لِقُرْبِهَا مِنَ النَّهَارِ، وَقَالُوا: الزُّلَفُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ الْآخِذَةُ مِنَ النَّهَارِ، وَسَاعَاتُ النَّهَارِ الْآخِذَةُ مِنَ اللَّيْلِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ صَلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْمَغْرِبُ وَالْغَدَاةُ (أَيِ الْفَجْرُ) وَزُلَفُ اللَّيْلِ الْعَتَمَةُ (أَيِ الْعَشَاءُ)، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ صَلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ الْفَجْرُ وَالْعَصْرُ، وَقَالَ فِي زُلَفِ اللَّيْلِ هُمَا زُلْفَتَانِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَصَلَاةُ الْعِشَاءِ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هُمَا زُلْفَتَا اللَّيْلِ» وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اللُّغَةِ مِمَّا قَبْلَهُ، فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ فَيُبْحَثُ عَمَّنْ رَفَعَهُ، وَأَدْخَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ؛ إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى وَقْتُهَا طَرَفًا بِمَعْنَى أَنَّهُ طَائِفَةٌ وَنَاحِيَةٌ مِنَ النَّهَارِ يَفْصِلُهَا مِنْ غَيْرِهَا زَوَالُ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ طَرَفٌ ثَالِثٌ، وَاللَّفْظُ هَنَا مُثَنَّى، وَفِي سُورَةِ طه: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} 20: 130 فَجَمَعَ الْأَطْرَافَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ بِالْمَعْنَى، وَهُمَا وَقْتَا صَلَاتَيِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ.
وَالْأَظْهَرُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى وَتَسْبِيحَهُ الْمُطْلَقَ فِيهَا عَامٌّ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ وَغَيْرُهَا، وَالْآيَةُ الصَّرِيحَةُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [30: 17 و148] تُمْسُونَ تَدْخُلُونَ فِي الْمَسَاءِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، نَقَلَهُ فِي الْمِصْبَاحِ عَنِ ابْنِ الْقُوطِيَّةِ، ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِثْلَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْعَشِيِّ، وَهُوَ غَلَطٌ سَبَبُهُ اشْتِرَاكُ الْوَقْتَيْنِ بِاتِّصَالِ آخِرِ الْمَسَاءِ بِأَوَّلِ الْعَشِيِّ، وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ حَيْثُ يَخْتَلِطُ النُّورُ بِالظَّلَامِ، فَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ الْعِشَاءُ الْأُولَى، وَصَلَاةُ الْعَتَمَةِ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ الَّتِي يَزُولُ عِنْدَهَا الشَّفَقُ، وَهُوَ آخِرُ أَثَرٍ لِنُورِ النَّهَارِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْر} [17: 78] الْآيَةَ، فَدُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا، أَيْ أَقِمْهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا هَذَا وَفِيهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ، مُنْتَهِيًا إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ ظُلْمَتِهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْعِشَائَيْنِ، وَأَقِمْ صَلَاةَ الْفَجْرِ.
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ قَبْلَهَا مُبَيِّنٌ لِحِكْمَتِهِ وَفَائِدَتِهِ. وَمَعْنَاهَا: أَنَّ لِلْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِصْلَاحِهَا، مَا يَمْحُو مِنْهَا تَأْثِيرَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَإِفْسَادِهَا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْحَسَنَاتِ فِيهَا بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} وَلَا غَرْوَ، فَالصَّلَاةُ أَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ، وَأَكْبَرُ الْعِبَادَاتِ الْمُكَفِّرَةِ لِلسَّيِّئَاتِ، وَلَكِنْ لَفْظُ الْحَسَنَاتِ عَامٌّ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ حَتَّى التُّرُوكِ فَإِنَّهَا عَمَلٌ نَفْسِيٌّ، وَمِنْهُ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} 4: 31 وَفِي الحديث: «وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا».
{ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أَيْ: إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصَايَا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى هُنَا لَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّعِظِينَ الَّذِينَ يُرَاقِبُونَ اللهَ وَلَا يَنْسَوْنَهُ.
وَقَدْ فَسَّرُوا السَّيِّئَاتِ هُنَا بِالصَّغَائِرِ، وَأَيَّدُوهُ بِمَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ كَأَنَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ كَفَّارَتِهَا فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} إِلَخْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلِي هَذِهِ؟ قَالَ: «هِيَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ الْبُخَارِيِّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْهُمْ- أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ: إِنَّنِي وَجَدْتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ فَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أُجَامِعْهَا، قَبَّلْتُهَا وَلَزِمْتُهَا وَلَمْ أَفْعَلْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَافْعَلْ بِي مَا شِئْتَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَوْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَتْبَعَهُ رَسُولُ اللهِ بَصَرَهُ فَقَالَ: «رُدُّوهُ عَلَيَّ». فَرَدُّوهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الْآيَةَ. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَهُ وَحْدَهُ أَمْ لِلنَّاسِ كَافَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً». وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ مَغْزَاهُ، وَقَدْ سُمِّيَ الرَّجُلُ فِي بَعْضِهَا بِأَبِي الْيَسَرِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَسُولَ اللهِ أَقِمْ فِيَّ حَدَّ اللهِ- مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ- فَأَعْرَضُ عَنْهُ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ: « أَيْنَ الرَّجُلُ؟» قَالَ: أَنَا ذَا، قَالَ: «أَتْمَمْتَ الْوُضُوءَ وَصَلَّيْتَ مَعَنَا آنِفًا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّكَ خَرَجْتَ مِنْ خَطِيئَتِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ فَلَا تَعُدْ».